"قال ربي إني وهن
العظم مني و أشتعل الرأس شيباً و لم أكن بدعائك ربي شقياً " كان صوت محمد
رفعت يصدح في أرجاء البيت لا يقطعه سوي همهمات الطيور التي استيقظت من سباتها حتي
تأتي بالطعام لعيالها ,الشمس تتخلل سماعات الراديو و تتسرب من السلك الحديدي الذي
تم تركيبه حديثاً علي الشباك بعد معاناة من الذباب ...دبيب الأطفال في صالة البيت
و أصواتهم و هم يتحركون جيئةً و ذهاباً ليحضروا حاجاتهم و يفعلوا ما يفعلون .و
صوتها (جميلة) و هي تناولهم بعض أدواتهم و بعض أرغفة الخبز التي إمتلأت جبناً
أبيضاً و جرجيراً فاحت رائحته النفاذة منها . كانت ترتدي جلباباً فضفاضاً و تضع
منديلاً فوق رأسها أضفي عليها لمسة جمال ربة بيت في الستينيات ,تتحرك بسرعة حتي
لايتأخر الصغار علي المدرسة , تفكر في كل شيئ ... البيت و مصاريفه و الأولاد و :
هنعمل إيه بس أما العيال دي تبقي في ثانوي ولا تكبر شوية ..أما الواد دلوقتي عايز
حتة صلصال و كراسة عشان يرسموا فيها مش قادرة أجيبهمله ,و لسة دروس و مصاريف و
الواد عايز يتجوز و يييييييييه ...هه (تنهدت) و أعلنت عن أفكارها بكلمة واحدة
:الحمد لله .
تذكرت كلمة أبيها : العيل بينزل برزقه يا بت ...ما تخافيش , ولادك دول هيبقوا
أحسن ناس بعد كدة و مشيراً بسبابته إلي أعلي : و الله يا بنتي في حاجات كده
...تهدج صوته و دمعت عيناه . في حاجات كده بتحصل مع الواحد بيبقي يعني ...نفسه
يقول لربنا ..يا رب .الحمد لله ... و الله يا بنتي ربنا ما بيسيب حد.
كانت تتأثر لتلك الكلمات و أحياناً تتذكر أباها و تقول : الله يرحمه ...
كان طيب ...أوي .كما قالتها الآن.
-مالك يا امه ؟؟ّ!!
-يا نهار إسود ... قهوة
أبوك.. أوعي من سكتي يا واد
ضحك الصغير .
رجعت له : الحمد لله لحقتها قبل ما تفور حاكم
أبوك يحبها بوش .ابتسمت بسخرية :صاحب مزاج طول عمره .
-أنا نازل يا امه ..عايزة حاجة و أنا جي؟؟
-استني يلا أبوك يصحي
عشان يديك المصروف إنت و أخوك . كانت مبتسمة ...ملست علي شعره و لثمته : حبيب أمك
إنت . كانت تجثو علي ركبتيها , إحتضنها بيديه و أنامله الصغيرة ...داعبت بطنه
بأصابعها فأخذ يضحك مظهراً أسناناً صغيرة ... ضحكته لا تراها إلا و قد أحببتها
: يللا بقه عشان أصحي
أبوك .
-حسن!!
-بس يا ولا عيب تقول
كده ...قالتها مقطبة جبينها و مبتسمة في إستغراب . استني يا علي زي ما قولتك عشان
أجيب لك مصروفك إنت و أخوك .
-ماشي ... أنا قاعد أهو
في حجرة النوم كان حسن يرقد في سبات عميق
كشجرة في غابة إستقرت بعد قطعها ...سرير متواضع و جو روحاني ملهم , دخلت و في يدها
فنجان القهوة الساخن الذي إمتلأ عن آخره حيث رأت علي الشباك حمامة تقف. الحمام خير
و بركة من عند ربنا يا جميلة هكذا كانت تقول جدتها .
-طب خير خير . الحمد لله .
أقتربت من زوجها النائم .ببطئ. و بصوت خافت و
جاد :
-حسن...
-............
-إنت يا عم إنت
-............
-يا .. حسن
و ضعت كوب القهوة علي ذلك الدولاب الصغير
الذي يطلق عليه الناس إسم كومودينو ..إستقرت عليه زجاجة مياه نصف ممتلئة , كان
متسخاً بعض الشيئ أطرقت بوجهها ناحيته ثم عادت لإيقاظ حسن .
-يا عم قوم بقه ..قالتها و هي تهز كتفه . يادي النيلة ..طب قل لي الفلوس
فين عشان أدي العيال المصروف .
-...........
-يا حسن قوم بقة الله
يكرمك . قالتها راجية أن يقوم من ذلك الخدر .
-ماما يلله عشان
إتأخرنا .
-ماشي يا أبني بس لما
أبوك يصحي بس ... إنت ما تعرفش بيحط الفلوس اللي بيديكوا منها فين ؟؟
لم يأت رد .
-يبقي ماتعرفش .
عادت فأمسكت بيد حسن .. : يا حبيبي إصحي بقه
العيال عايزة ت... ما هذا يده بارده كألواح ثلج !!
-حسن ... أبوس إيدك ما تعملش الحركات دي . تكاد تبكي. بل لقد بكت بالفعل .
حسن ... و النبي قوم ..طب عشان خاطري .
تحسست معصمه و فعلت كما تراهم يفعلون ..لم
تشعر بشيئ ..ربما لأني متوترة لا أشعر عادت مرة أخري .قلبته في سريره فصارت عيناه
في عينيها : حسن ... طب بص مش هاخد منك مصروف للعيال طيب ... طب بص أنا جبتلك قهوة
بوش اللي إنت بتحبها ...يا حسن . صرخت و هي تبكي : حسسسسن . قوم يا سندي . قوم
.جثمت علي يديه تقبلها و سقطت لا إرادياً من السرير .هرع الصغير إلي الغرفة فوجدها
علي تلك الحالة ركض ليري ما قد حدث .. أسقط فنجان القهوة من دون قصد : أبويا ...
أبه . في ايه يا أمه ؟؟!! كان مرتعداً إلي أقصي حد : ايه اللي حصل ..؟؟!!
إنه الأنهيار هذه المرة ... إنه توقف الحياة
التي دامت لسنين ...إغماض العينين و الدخول في غياهب الأسود اللامع و دق الطبول و
الموسيقي الحزينة و رائحته التي رافقتها في حياتها و ملمس يده التي كانت تدفئها في
أعتي ليالي البرد و تشعرها بالأمان ... إنها ملابسه التي لازالت متسخة و ملابسه
النظيفة إنها الساعة الرابعة و النصف التي كان يدخل فيها البيت إنها خضروات أتي
بها و لم تعجبها و تذمرت ... إنها مشادات دارت بينهما في يوم من الأيام ... إنها
ضحكته العالية و هي تتكأ برأسها علي صدره بالليل و هم يشاهدون التلفاز و يتسامرو
مع الأولاد و يأكلون المسليات و البطيخ . إنها كلمة إزيك يا جميلة مع إبتسامة تنسي
بها مشاكلها ...إنها شكوي من زملاء العمل كان يحكيها لها و تقول له : أنت الغلطان
يا حسن . إنه اسمه الذي كلما سمعته تذكرته . إنها فرحتها يوم الفرح و يوم أتي
الواد البكري و الواد التاني ...إنها لحظة تسميتهم للأولاد معاً ...إنها نقود وقعت
منه ذات مرة في الصالة و أرجعتها له ... إنه المصروف ... إنه تحملها لكل شيئ ما
دام بجانبها و يحرسها ... إنها أحاسيسها المخطلتة : الأمان و الحب و ما بينهما من
أحاسيس .
إنها حياتها ...
التي ماتت هذا الصباح.
-يعني كده بابا مش هيرجع تاني ؟؟!!
-............
-امه ....
-نعم يا إبني ... مات
أبوك ... أبوك مات ... جوزي مات ...مات قبل ما يشرب قهوته و يقول لي تسلم إيدك و
يسلم عليا و هو ماشي رايح ورشته . مات كده ..من غير إحم ولا دستور ..كان صوتها يعلو
تدريجياً ... مااااااااااااات .
يا رب ....................
كانت آخر ما تقول قبل أن يغشي عليها . ولا
تسمع نحيب الأطفال عليها و علي أبيهم ... حسن .مات .
و إختتم الشيخ رفعت : و سلام علي يوم ولدت و
يوم أموت و يوم أبعث حياً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق