الخميس، 6 يونيو 2013

مات حسن .

"قال ربي إني وهن العظم مني و أشتعل الرأس شيباً و لم أكن بدعائك ربي شقياً " كان صوت محمد رفعت يصدح في أرجاء البيت لا يقطعه سوي همهمات الطيور التي استيقظت من سباتها حتي تأتي بالطعام لعيالها ,الشمس تتخلل سماعات الراديو و تتسرب من السلك الحديدي الذي تم تركيبه حديثاً علي الشباك بعد معاناة من الذباب ...دبيب الأطفال في صالة البيت و أصواتهم و هم يتحركون جيئةً و ذهاباً ليحضروا حاجاتهم و يفعلوا ما يفعلون .و صوتها (جميلة) و هي تناولهم بعض أدواتهم و بعض أرغفة الخبز التي إمتلأت جبناً أبيضاً و جرجيراً فاحت رائحته النفاذة منها . كانت ترتدي جلباباً فضفاضاً و تضع منديلاً فوق رأسها أضفي عليها لمسة جمال ربة بيت في الستينيات ,تتحرك بسرعة حتي لايتأخر الصغار علي المدرسة , تفكر في كل شيئ ... البيت و مصاريفه و الأولاد و : هنعمل إيه بس أما العيال دي تبقي في ثانوي ولا تكبر شوية ..أما الواد دلوقتي عايز حتة صلصال و كراسة عشان يرسموا فيها مش قادرة أجيبهمله ,و لسة دروس و مصاريف و الواد عايز يتجوز و يييييييييه ...هه (تنهدت) و أعلنت عن أفكارها بكلمة واحدة :الحمد لله .
تذكرت كلمة أبيها : العيل بينزل برزقه يا بت ...ما تخافيش , ولادك دول هيبقوا أحسن ناس بعد كدة و مشيراً بسبابته إلي أعلي : و الله يا بنتي في حاجات كده ...تهدج صوته و دمعت عيناه . في حاجات كده بتحصل مع الواحد بيبقي يعني ...نفسه يقول لربنا ..يا رب .الحمد لله ... و الله يا بنتي ربنا ما بيسيب حد.
كانت تتأثر لتلك الكلمات و أحياناً تتذكر أباها و تقول : الله يرحمه ... كان طيب ...أوي .كما قالتها الآن.
-مالك يا امه ؟؟ّ!!
-يا نهار إسود ... قهوة أبوك.. أوعي من سكتي يا واد
ضحك الصغير .
رجعت له : الحمد لله لحقتها قبل ما تفور حاكم أبوك يحبها بوش .ابتسمت بسخرية :صاحب مزاج طول عمره .
-أنا نازل يا امه ..عايزة حاجة و أنا جي؟؟
-استني يلا أبوك يصحي عشان يديك المصروف إنت و أخوك . كانت مبتسمة ...ملست علي شعره و لثمته : حبيب أمك إنت . كانت تجثو علي ركبتيها , إحتضنها بيديه و أنامله الصغيرة ...داعبت بطنه بأصابعها فأخذ يضحك مظهراً أسناناً صغيرة ... ضحكته لا تراها إلا و قد أحببتها
: يللا بقه عشان أصحي أبوك .
-حسن!!
-بس يا ولا عيب تقول كده ...قالتها مقطبة جبينها و مبتسمة في إستغراب . استني يا علي زي ما قولتك عشان أجيب لك مصروفك إنت و أخوك .
-ماشي ... أنا قاعد أهو
في حجرة النوم كان حسن يرقد في سبات عميق كشجرة في غابة إستقرت بعد قطعها ...سرير متواضع و جو روحاني ملهم , دخلت و في يدها فنجان القهوة الساخن الذي إمتلأ عن آخره حيث رأت علي الشباك حمامة تقف. الحمام خير و بركة من عند ربنا يا جميلة هكذا كانت تقول جدتها .
-طب خير خير . الحمد لله .
أقتربت من زوجها النائم .ببطئ. و بصوت خافت و جاد :
-حسن...
-............
-إنت يا عم إنت
-............
-يا .. حسن
و ضعت كوب القهوة علي ذلك الدولاب الصغير الذي يطلق عليه الناس إسم كومودينو ..إستقرت عليه زجاجة مياه نصف ممتلئة , كان متسخاً بعض الشيئ أطرقت بوجهها ناحيته ثم عادت لإيقاظ حسن .
-يا عم قوم بقه ..قالتها و هي تهز كتفه . يادي النيلة ..طب قل لي الفلوس فين عشان أدي العيال المصروف .
-...........
-يا حسن قوم بقة الله يكرمك . قالتها راجية أن يقوم من ذلك الخدر .
-ماما يلله عشان إتأخرنا .
-ماشي يا أبني بس لما أبوك يصحي بس ... إنت ما تعرفش بيحط الفلوس اللي بيديكوا منها فين ؟؟
لم يأت رد .
-يبقي ماتعرفش .
عادت فأمسكت بيد حسن .. : يا حبيبي إصحي بقه العيال عايزة ت... ما هذا يده بارده كألواح ثلج !!
-حسن ... أبوس إيدك ما تعملش الحركات دي . تكاد تبكي. بل لقد بكت بالفعل .
حسن ... و النبي قوم ..طب عشان خاطري .
تحسست معصمه و فعلت كما تراهم يفعلون ..لم تشعر بشيئ ..ربما لأني متوترة لا أشعر عادت مرة أخري .قلبته في سريره فصارت عيناه في عينيها : حسن ... طب بص مش هاخد منك مصروف للعيال طيب ... طب بص أنا جبتلك قهوة بوش اللي إنت بتحبها ...يا حسن . صرخت و هي تبكي : حسسسسن . قوم يا سندي . قوم .جثمت علي يديه تقبلها و سقطت لا إرادياً من السرير .هرع الصغير إلي الغرفة فوجدها علي تلك الحالة ركض ليري ما قد حدث .. أسقط فنجان القهوة من دون قصد : أبويا ... أبه . في ايه يا أمه ؟؟!! كان مرتعداً إلي أقصي حد : ايه اللي حصل ..؟؟!!
إنه الأنهيار هذه المرة ... إنه توقف الحياة التي دامت لسنين ...إغماض العينين و الدخول في غياهب الأسود اللامع و دق الطبول و الموسيقي الحزينة و رائحته التي رافقتها في حياتها و ملمس يده التي كانت تدفئها في أعتي ليالي البرد و تشعرها بالأمان ... إنها ملابسه التي لازالت متسخة و ملابسه النظيفة إنها الساعة الرابعة و النصف التي كان يدخل فيها البيت إنها خضروات أتي بها و لم تعجبها و تذمرت ... إنها مشادات دارت بينهما في يوم من الأيام ... إنها ضحكته العالية و هي تتكأ برأسها علي صدره بالليل و هم يشاهدون التلفاز و يتسامرو مع الأولاد و يأكلون المسليات و البطيخ . إنها كلمة إزيك يا جميلة مع إبتسامة تنسي بها مشاكلها ...إنها شكوي من زملاء العمل كان يحكيها لها و تقول له : أنت الغلطان يا حسن . إنه اسمه الذي كلما سمعته تذكرته . إنها فرحتها يوم الفرح و يوم أتي الواد البكري و الواد التاني ...إنها لحظة تسميتهم للأولاد معاً ...إنها نقود وقعت منه ذات مرة في الصالة و أرجعتها له ... إنه المصروف ... إنه تحملها لكل شيئ ما دام بجانبها و يحرسها ... إنها أحاسيسها المخطلتة : الأمان و الحب و ما بينهما من أحاسيس .
إنها حياتها ...
التي ماتت هذا الصباح.
-يعني كده بابا مش هيرجع تاني ؟؟!!
-............
-امه ....
-نعم يا إبني ... مات أبوك ... أبوك مات ... جوزي مات ...مات قبل ما يشرب قهوته و يقول لي تسلم إيدك و يسلم عليا و هو ماشي رايح ورشته . مات كده ..من غير إحم ولا دستور ..كان صوتها يعلو تدريجياً ... مااااااااااااات .
يا رب ....................
كانت آخر ما تقول قبل أن يغشي عليها . ولا تسمع نحيب الأطفال عليها و علي أبيهم ... حسن .مات .
و إختتم الشيخ رفعت : و سلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حياً .





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق